آخر سنين الارتباك
في اوائل عهد الرومان القدماء كانت الدوله تتبع تقويما شمسيا بسيطا يقسم السنه الى 365 يوما بحيث تتزامن شهور السنه مع فصول الطبيعه والتي تعتمد بدورها على دوره الارض حول الشمس.
ولكن بالطبع وكما كان يعرف الرومان انفسهم، فإن الارض لا تدور حول الشمس في عدد صحيح من الايام حتى ترضي اهواءنا. فاذا كان اليوم هو دوره الارض حول نفسها، فالسنه اقرب الى 365.256363004 يوما. وحتى هذا الرقم تقريبي لأن فتره دوره الارض حول نفسها تتأرجح بنحو جزء بالمئه من الثانيه وفقا لعوامل كثيره منها الزلازل واحتكاك المد والجزر وتأرجح محور دوران الارض وعدم انتظام مدارها حول الشمس وغيرها وغيرها.
الواقع اذا كان عشوائيا ومعقدا (ولا يزال). امّا التقويم المعتمد فكان بسيطا ومنتظما. وكانت النتيجه الحتميه ان التقويم بات يتخلّف عن فصول الطبيعه شيئا فشيئا على مرّ القرون، حتّى اضحت شهور الصيف عند الرومان تتزامن مع فصل الربيع وهكذا، فما عاد التقويم يفي بغرضه وغرق الناس في الحيره والالتباس.
ودام الحال كذلك حتّى عهد الامبراطور Julius Caesar الذي قرر القضاء على الفوضى عن طريق اختراع تقويم جديد يكون معدل طول السنه فيه 365.25 يوما، وذلك عن طريق "دحش" يوم اضافي في واحده من كل اربع سنين. وقبل ان يبدأ العمل بهذا التقويم الجديد كان يلزم اعاده التزامن بين الشهور والفصول. وذلك يتطلب خطوه صعبه التطبيق هي "مطّ" احد السنين حتى منتصف فصل الشتاء.
وفعلا مطّ الرومان سنه 46 قبل الميلاد، فصبروا على سنه طولها 445 يوما دخلت التاريخ، ولا زالت تُعرف حتى اليوم بإسم "آخر سنين الارتباك" (The Last Year of Confusion).
وبالطبع فلم تكن "اخر سنين الارتباك" اخر سنين الارتباك، ففصول الطبيعه لا تنصاع لاوامر الامبراطور مهما علا شأنه. ولم تزل الفصول “تسحل” عبر شهور السنه ببطء شديد، حتى في عام 1582 تم تعديل التقويم مرّه اخرى على يد سلطه العصر Pope Gregory XIII ليصبح معدل طول السنه 365.2425 يوما وهو تقريب ادقّ ولكن لا يزال فيه خطأ، ولا يزال الحبل على الجرّار حتى ساعه اعداد هذه النشره...
النقطه هنا هي ان اهل روما القديمه حاولوا القضاء على حاله الفوضى عن طريق اعاده النظر في نظامهم بشكل جذري، واقتضاهم العلاج تحمّل سنه طويله من الارتباك ولكنهم امتلكوا الشجاعه الكافيه لتجرّع العلاج لأنهم كانوا يأملون في الخروج من ورطتهم بشكل نهائي.
وانا اسوق لكم هذا المثال لان عالمنا يعيش اليوم حاله مماثله من الفوضى. نراها في العراق وفي سوريا وفي مصر واليمن والسودان وليبيا وتونس والبحرين ووو… انظمه قديمه تصطدم بواقع عشوائي ومعقّد، فتفشل وتفشي الى حاله من التخبط والارتباك. وما احوج الشعوب العربيه اليوم الى اعاده النظر في كل شيء بشكل جذري. ما احوجنا الى جرعه من علاج مرّ للخروج من ورطتنا بشكل نهائي. ما احوجنا الى "اخر سنين الارتباك".
فالعالم العربي يتخبط اليوم في غياهب الحيره في محاوله لتصنيع انظمه ديمقراطيه حديثه تستطيع ان تعيش في بيئه يسودها التشدد الديني والاختلافات العقائديه، وهذا ليس بالامر الهيّن بل هو تحدّ لم تنجح به اي امه من الامم من قبل.
فالديمقراطيه منتج اوروبي "غربي" والمجتمعات الاوروبيه تختلف وتتحاور وتتناظر على امور ثانويه، ولكنها تتفق في السواد الاعظم على الامور الاساسيه مثل قداسه حريه التعبير، وضروره الدوله العلمانيه، وكيفيه التعايش مع الغير عن طريق اعتراف الجميع بانهم على حد سواء مع الفكر المقابل في نظام تعددي لا سطوه فيه لفكر على الاخر.
في مجتمع من هذا النوع يسهل تصنيع نظام حكم متزن يُشرك الجميع ويُرضي غالبيه الاطراف. لهذا كانت الديمقراطيه بنكهتها الغربيه مشروعا ناجحا في اوروبا ومنتجاتها كامريكا وكندا.
اما في الوطن العربي، فالديمقراطيه لم تصمد امام الامتحان العسير، حيث المجتمعات منقسمه حول قضايا جذريه، مثل جدوى الديمقراطيه نفسها، او قيمه حريه التعبير، او صلاحيه النظام التعددي في الحكم، بل وحتى حول قضيه الحكم باسم البشر ام باسم الرب.
فكيف يتقاسم السلطه شخص مقتنع انه مستخلف في الارض من قبل سلطه السماء وموكّل بتطبيق اوامر الاله وإن رفض البشر قاطبه؟ سؤال صعب لم يتطرّق له الفكر الاوروبي الحديث، لأن الفكر الاوروبي الحديث نشأ بعد ان افلس المشروع الديني وأنفه المواطنون بكافه اطيافهم.
في امريكا تتصارع الاحزاب السياسيه حول طريقه تنظيم التأمين الصحي ومدى سلطه الدوله على انتشار الاسلحه اليدويه بين السكان. والنظام الديمقراطي ينجح بمنهجة هذا الصراع واحتوائه ضمن جو مستقر ودوله مزدهره. اما في مصر فالصراع السياسي يدور حول امور اكبر بكثير مثل حدود حريه التفكير وحق المواطنين في اختيار اسلوب حياتهم، وهنا ينهار النظام الديمقراطي الذي لم يكن يوما اهلا لاحتواء اختلافات على هذا النطاق.
اما في سوريا مثلا فالتناحر قائم على ماهيه نظام الحكم اصلا، فتلك الطائفه تريد حكما شموليا تحت جناح القائد العظيم، والاخرى تريد خلافه اسلاميه يكون الامر فيها لله والحاكم يقيم شرع الله في الارض، والثالثه تريد دوله مؤسسات على غرار الدول المدنيه الحديثه. وبين هذه وتلك لا جدوى للحوار، ولا تقاطع بين وجهات النظر، ولا توجد في العالم منهجيه لقيام دوله متزنه من طوائف متباعده الى هذا الحد - سوى ربما الدوله البوليسيه التي تحقق الهدوء عن طريق تكميم افواه الجميع.
وفي العراق او السودان، لا تتفق الجموع حتى على وحدانيه الدولة. فهناك طوائف واقاليم وتيارات تريد الاستقلال بنفسها واخرى تريد الموت دون المسّ بوحده الوطن. ومثل هذا الامتحان العسير تكاد تفشل به امتن ديموقراطيات العالم (تحضرنا مثلا ازمه استقلال اقليم Quebec في كندا)، فما بالك بديموقراطيه وليده مثل العراق لم تبلغ سن الفطام بعد؟
في غمره الفوضى هذه يمكن لأينا ان يتنبأ وبسهوله ان الضباب لن ينقشع بسرعه، وان 2014 ستكون سنه طويله، صعبه، وقاسيه.
لن تكون 2014 َآخر سنين الارتباك. ولكن كلنا امل ان يتعامل معها الانسان العربي على هذا الاساس، فيتجرع مرارتها ويصبر على طولها وقسوتها، ولا يتورع عن الخروج فيها عن المألوف واعاده النظر في كل شيء، وخوض تجارب جديده مهما كانت اشكاليه او صعبه التطبيق، لعل احداها تفضي به من الظلمات الى النور.
المصادر:
Sidereal Year - Wikipedia
Earth Orbit - Wikipedia
Geopolitics of the Gregorian Calendar - Stratfor
The longest Year in History - University of Houston
Comments