كلّنا مجدي الياسين
منذ الصغر وصالونات عمان تعج دائماً بالقصص والأقاويل والإشاعات والنكات عن الفساد والمفسدين، لدرجة ان معظم الشخصيات المعروفة على مستوى الدولة مشبوهة بالفساد في نظر أحد الجالسين أو الآخر. هذا ليس بجديد أو مستغرب، حيث ان شعب الأردن يحب القيل والقال ويعاني للأسف من نقص حاد في المناعة ضد الإشاعات، وعجز مزمن في ملكة التوثق من الحقائق. أضف إلى ذلك ان المرء لا يستغرب الدخان في بلد تستعر فيه النيران بالفعل منذ عقود٬
منذ الصغر وصالونات عمان تعج دائماً بالقصص والأقاويل والإشاعات والنكات عن الفساد والمفسدين، لدرجة ان معظم الشخصيات المعروفة على مستوى الدولة مشبوهة بالفساد في نظر أحد الجالسين أو الآخر. هذا ليس بجديد أو مستغرب، حيث ان شعب الأردن يحب القيل والقال ويعاني للأسف من نقص حاد في المناعة ضد الإشاعات، وعجز مزمن في ملكة التوثق من الحقائق. أضف إلى ذلك ان المرء لا يستغرب الدخان في بلد تستعر فيه النيران بالفعل منذ عقود٬
أما الجديد والمذهل فهو ظهور شخصيات على الساحة لا يكاد يختلف إثنان في أي مجلس أو حول أي صدر منسف على تورطها في الكثير من قصص الفساد، مثل شخصية مجدي الياسين أخي الملكة رانيا٬
نحن هنا لسنا بصدد الحديث عن صحّة أو بطلان شبهات الفساد المتعلقة بالياسين شخصياً، فتلك أحكام راجعة للقضاء في دولة مؤسسية كالأردن. وما لنا إلّا أن نعتبر الجميع أبرياءً حتى يثبت العكس في محكمة حره، نزيهة، وعادلة. إنما نحن بصدد الحديث عن مجدي الياسين الظاهرة: ذلك الإنسان النمطي الذي يستغل علاقات القرابة من أشخاص في مناصب عليا حتى يبني أرباحاً شخصيةً، ثم يزداد طمعاً فينخر في البنيان الوطني أكثر وأكثرالى أن يترك أثراً سلبياً ملحوظاً على مستوى حياة شعب بأكمله! إن شخصيةً بهذه المواصفات تتعدى صفة الفساد العادي فتدخل في تصنيف "المفسِد المثالي" على غرار الطالب المثالي٬
لا شك أن بلاد العرب الحديثة تنعف بمئآت "اليواسين"، كما أنه لا شك أن الربيع العربي سوف يقوض مضاجعهم جميعاً إن لم يعريهم بالكامل. فبعضهم يمثل حالياً في أقفاص الإتهام، وبعضهم يشار إليه علناً ويهتف الناس في الشوارع مطالبين بمحاكمته، بينما البعض الآخر -لا بد- يرتعد خوفاً في صمت راجياً أن "يفشّق الدور" عنه٬
ولكن يا ترى هل ظاهرة الياسين ظاهرة إستثنائية؟ بمعنى هل يمكن تفسيرها بكونها تعاني من خلل نفسي أو عقدة باثولوجيه تجعلها تتصرف بطريقة غير سوية على غرار من يقتل أو من ينتحر؟ إذا كان الأمر كذلك، فلمذا يتحوّل الأغلبية الساحقة من الأشخاص الأسوياء الى يواسين حال تسلمهم مناصب متنفّذة في بلاد العرب بالذات؟
إن المرء، إذا آمن بحكمة الشارع "المال السايب بعلم السرقه"، لا بد له أن يعترف بأن داخل كل فرد ميول للفساد جاهزة للنموّ حال توَفر الأجواء المناسبة مثل المال السايب! هذه الملاحظة البديهيّة -التي يصادق عليها الجميع حين يهزّ جالسو صالونات عمّان رؤوسهم موافقةً على "النفس أمّارة بالسوء"- هذه الملاحظة مهمة جداً، فهي تحمل في داخلها المفتاح للتعامل مع ظاهرة الياسين: إذا كانت النفس أمّارة بالسوء، فإن الشخصية الفاسدة لا تعود كائناً غريباً عنّا مثل مخلوقات الفضاء، بل هي شخصية طبيعية بإمكاننا فهمها، تسيّرها رغبات تعترينا جميعاً، ويمكننا التنبؤ بتصرّفاتها وردود أفعالها٬
من هنا نبدأ: بأن الطمع، والقابلية للفساد والإفساد ليست بحالات إستثنائية. كلنا طماعون بطبيعتنا! كلنا نرغب وكلنا نريد وكلنا نخاف من المستقبل ونحاول أن نأمن تقلباته عن طريق تأمين ذخيرة كافية من مال اليوم. كلّنا نملك قدراً عالياً من الأنانية، ويهمّنا رخاؤنا و أحبابَنا أكثر من رخاء الآخرين، وإلّا لما رضينا تناول وجبة العشاء البارحة بضمير مرتاح في عالم يموت فيه الآلاف من الجوع يوميّاً! إن ما يعيذه الياسين في البلاد فساداً لا يختلف عن وجبة العشاء تلك من حيث المبدأ وإنما من حيث المقدار فقط. إن القابلية للفساد من هذا المنظور ليست مشكلة أو حتى ظاهرة، وإنما حقيقه بيولوجيه تصف تكوين الإنسان بدقّة٬
الظاهرة المستشرية ببلاد العرب خاصةً إذاً ليست "السرقه" وإنما "المال السايب". ومن هنا فإن مكافحة الفساد عن طريق ملاحقة المفسدين إستراتيجية عقيمة، أشبه ما تكون بمعالجة السرطان عن طريق "بلبعه" مسكّنات الألم، أو بمكافحة الحريق عن طريق رشّ المياه على الأجزاء التي احترقت بالكامل وتحوّلت إلى رماد٬
فالفساد مؤسسة يديرها المتنفعون منها والمتضررون منها معاً! من العقل المدبر مروراً بالمنفّذين والمتواطئين والمسترزقين، إلى العارفين و"الغارشين" والساكتين والخائفين والذين يمشون "الحيط الحيط"، وحتّى من يقضون الصبيحة في التحدّث عن معاملة إقامة الشغّالة أو حفلة عرس إبن الجيران في وطن تقطر بِيض الهند من دمه. كلنا مسننات في آلة الفساد. كلّنا روافد لظاهرة مجدي الياسين٬
نقول أن محاسبة المفسدين ليست بعلاج منطقي لظاهرة الفساد، وإنما هي خطوة على طريق إحقاق الحق لا أكثر. على المرء -وداره تحترق أمام عينيه- أن يكافح الحريق عن طريق رش الماء على الأجزاء التي لم تحترق بعد. يجب أن نسعى لبناء شبكة من الضوابط وخطوط الحماية تضمن أن يبقى الطمع -تلك الغريزة الإنسانيّة دائمة الوجود- تحت السيطرة، حتى نمنع شباب اليوم من التحول الى يواسين مستقبلية تُجهز على البقيّة الباقية من الوطن. يجب أن نكوّن نظاماً لا يمكن تحته لأحد أن يتنفّع من المال العام، وذلك بأن النظام نفسه يُلزم أن تتم الإجراءات كلها "عالمكشوف٬"النظام" هنا لا يعني كياناً تشريعياً فقط، بل علينا أن نبرمج المواطن منذ الصغر على تحرّي وممانعة إستغلال المصالح العامّة من القبل الغير. في دولة مثل الأردن يمكن الحديث جديّاً عن إستحداث مادة تدريسيّة عن فوائد وأساليب مكافحة الفساد، لتُدرّس يوميّاً في كل مدارس البلاد! يمكننا أيضاً أن نخصص جوائز عينية أو فخريّة لكلّ من يبلّغ عن أية حادثة فساد على أي مستوى من آذن المدرسة الى القصر الملكي! يجب علينا أن ننحت في تكوين الإنسان العربي منذ الصغر أن الإشهار عن المفسدين فضيلة بنفس مستوى فضيلة برّ الوالدين مثلاً -والتي يتغنّى بها العرب من المشرق إلى المغرب-، وأن التحرّي عن الفساد لحماية ألف أو إلفين من مالنا العام "شطاره" تماماً مثل شطارة مفاصلة "بياع الأواعي" لتوفير دينار أو دينارين من مالنا الخاص، وأن الإشتراك أو التواطؤ مع المفسدين "عيب" بنفس درجة عيبية البخل مثلاً والتي يتبارز العرب بها هجاءً بعضهم لبعض٬
لطالما استغربت : كيف يمكن لمجتمع يتقاسم فيه الفقير المعدَم آخر كسرة خبز في بيته مع عابر السبيل كل لا يقال هذا بخيل - كيف لمجتمع يتحلّى أفراده بتلك الدرر النادرة من مكارم الأخلاق أن يعاني من مشاكل مادّية تتعلق بأنانيّه المسؤولين؟ لم لا تندرج غيرةُ المسؤول على مال الناس بنفس خانة غيره الأب على عفّة إبنته مثلاً. إن مجدي الياسين نفسه -على أغلب الظن- مستعدّ لأن يقتُل أو يقتَل دفاعاً عن شرف أخته أو أن يضحّي بالدنيا وما فيها في سبيل أن يجنّب ذويه الجوع مثلاً! فلماذا نجح المجتمع الشرقي بأن يسِمَهُ بتلك الأخلاق نادرة الوجود في العالم بأكمله، وفشل بأن يقنعه بأن سرقة البلد "عيب"؟؟
علينا باختصار أن نطوّر مفهوم الرذيلة والفضيلة في الثقافة الشرقيّة ليشمل الإفساد والإشهار عن المفسدين على الترتيب. هنا الفرق بين العلاج والمسكّنات. من هنا مدخل المدينة العربيّة الفاضلة٬
Comments