بوابه الشرور

ونحن صغار، اخرجت لنا Hollywood فلم رعب اسمه Jumanji كان هو الوحيد  من نوعه من حيث هو موجّه للاطفال. وملخص قصه ذلك الفلم هو ان بضعه اطفال اكتشفوا لعبه سحريه تستطيع ان تفتح بوابه تصل عالمهم الحاضر بعالم الادغال من الماضي السحيق. فما ان باشروا اللعبه حتى خرجت لهم من هذه البوابه حيوانات ضاريه و حشرات عملاقه وزواحف مفترسه ونباتات اكله للبشر، وهم يحاولون النجاه من تلك المخاطر طوال الفلم، حتى اذا عانوّا الامرّين ونالت منهم الاهوال ما نالت، تمكّنوا في النهايه من اغلاق البوابه والتخلص من اللعبه السحريه الى الابد.

حاولت ان اتجنب الكتابه عن حادثه الطيار الاردني ونهايته البشعه، فقد اصبحت قصته منبر من لا منبر له، وانا اكره المتاجره بمشاعر الاخرين واستثمار عذاباتهم لاغراض شخصيه. لذا حاولت تجنب الموضوع ولكن الغصه في الحلق عندما تكون مؤلمه الى حد ما، لا يملك احدنا ان يصمت. بل لا يستطيع الا ان يصرخ بملء حنجرته: كيف وصلنا الى هنا؟!؟

احيانا يكون الانسان بحاجه الى كفّ مؤلم حتى يصحو من سبات عميق. وانا لا استطيع ان ابتكر حتى في ابعد تخيلاتي الساديه منظرا مؤلما كمنظر شاب عشريني يحترق حيا في قفص حديدي، على خلفيه رمال صحراء موحشه وشمس قائظه.فهلّا آن لنا ان نصحو بعد هذا الصفعه؟

فكره العقاب الجسدي وخصوصا القصاص بالمثل، فكره سادت في العصور الغابره ثم بادت. وليس هناك ما يمكن ان يبعثها في دنيا الحاضر سوى الدين. الدين وحده هو الذي يمكن ان يسوّل لعقول ولدت في القرن العشرين ان تفكر بطريقه العصور الوسطى، فالحارق يُحرق وقاطع الطريق تقطع يده ورجله. العين بالعين والسن بالسن. لا توجد صله وصل بين شريعه حمورابي ودوله القرن الواحد والعشرين، سوى الفكر الديني وحده. لهذا لا يدور جدال في النمسا مثلا حول جدوى جلد المجرمين، ولا تجد احدا في اليابان ينادي بتعذيب السارق او الزاني. لا في شرق العالم ولا في غربه سترى اثرا لعقوبه الجلد او الرجم او الصلب او السمل او اي عقوبه جسديه: هي دول طرحت الفكر الديني جانبا، فاغلقت بذلك الباب على القرون الغابره وغرست جذورها في دنيا اليوم، حيث القيم المعاصره تنادي (نظريا على الاقل) باحترام آدميه الانسان وحُرمه جسده وتحريم عذابه مهما كان السبب.

اما نحن العرب، فلا يزال هناك باب مفتوح بيننا وبين همجيه العصور الوسطى، تماما مثل البوابه السحريه في Jumanji. هذا الباب هو الدين. نحن فتحنا هذا الباب بايدينا، عندما رضينا ضمنيا بالمرجعيه الدينيه، عندما لم نقلها صراحه في وجه شيوخ الجوامع وشيوخ الفضائيات: نحن لا نقبل  المرجعيه الدينيه في شؤون معاملات الناس من حيث المبدأ. فإن كانت كتب السيره تتحدث عن الحرق والجلد والرجم، فنحن غير ملزمين بما في هذه الكتب. لا نريد تطبيقها!! واذا كانت الشريعه تتحدث عن الصلب وقطع الاطراف، فنحن نرفض ان نلتزم بهذه التعاليم ونصرّ على مرجعيه معاصره.

معاذ حُرّق قصاصا لانه (من وجهه نظر قتلته) القى من القنابل ما حرّق اجساد الكثير من افرادهم. والحق يقال ان القصاص (بمعنى: من آذاك جسديا فعقوبته العادله هي الاذى الجسدي بالمثل) فكره دينيه بامتياز، نجد جذورها في مسلّه حمورابي ثم تتبناها اديان متعدده لا يُستثنى منها الاسلام، ليصبح الدين بذلك حاضنه للعقوبات الجسديه، يكسبها شرعيه ويقحمها في القرن الواحد والعشرين دون اي مبرر منطقي.

والعقاب بالحرق خصوصا له سوابق كثيره في تاريخ الدوله الاسلاميه كان اولها في فجر الاسلام، اذ تخبرنا كتب السيره ان عليا بن اي طالب احرق مجموعه من المرتدين في حفره وهم على قيد الحياه. وعلي بن ابي طالب مرجعيه دينيه عليا بلا شك. وللامانه فان نفس كتب السيره تخبرنا ان ابن عباس استنكر هذه العقوبه. وابن عباس مرجعيه دينيه كبيره ايضا. وهل تعلو مرجعيه علي بن ابي طالب على مرجعيه ابن عباس؟ سؤال لا ينبغي ان تنشغل به عقول القرن الواحد والعشرين اساسا… وعلى ايه حال فلا جدال حول ان عقوبه النار في الفكر الاسلامي هي العقوبه الالهيه المفضله، وهي ان كانت محرمه في معاملات الناس فليس بدافع اخلاقي او انساني، وانما بدافع احتكار هذه العقوبه المثلى في دار الاخره دون الدنيا.

وبما ان الانسان ابن بيئته، فلا يمكن لعاقل أن ينكر العلاقه بين ما حصل لمعاذ وبين تربيه الطفل العربي منذ الصغر على تبجيل “عذاب النار”. هؤلاء المسوخ هم نتاج تلك التربيه. فكل وعاء بما فيه ينضح، وقديما قالوا: هذا النعاب من ذاك الغراب... وان كان غربان داعش قد تفتّق ذهنهم عن معاقبه غريمهم بأن يصلى نارا ذات لهب، فنحن لا نستطيع التظاهر ان هذا ناتج من فراغ. والا فلماذا لم تخطر هذه العقوبه على بال احد في سويسرا مثلا وخطرت على بال حضره الخليفه البغدادي؟؟

ثم اننا لسنا بمعرض الجدل حول القصاص بالنار على وجه الخصوص. فماذا لو كان الارهابيون قد رجموا معاذا  بالحجاره على رأسه حتى الموت مثلا؟ والرجم  عقوبه مثبته بنصوص كتب السيره بلا جدال. او ماذا لو كانوا قد صلبوا معاذا وتركوه يموت عطشا وألما على منصه من الخشب، والصلب عقوبه بشعه بعثتها لنا النصوص الدينيه من مرقدها في عهد الدوله الرومانيه القديمه واقحمتها في دنيا التواصل الاجتماعي بالصوت والصوره. او ماذا لو كانوا قطعوا يد معاذ ورجله وتركوه يئنّ وينزف حتى الموت في حفره سحيقه؟ وحد الحرابه هذا عقوبه مثبته بنص قرآني صريح واضح لا جدال فيه؟ هل كانت ثبوتيه النص المقرِّر للعقوبه ستقلل من وحشيه العقاب؟ هل سيكون المفروض منا ونحن نقرأ الخبر او نشاهد عذابه بالصوت والصوره ان  نتسامح مع المجرمين بالنظر الى توافق افعالهم مع سنن الترمذي او سيره ابن هشام او سوره المائده؟؟

ولمن يقول “انما هؤلاء ارهابيون متطرفون لا يمثلون الاسلام” نقول: فما قولك في مؤسسه الازهر وهل هي جماعه متطرفه ايضا؟ وهل تعلم ان رد الفعل الازهر على حادثه الحرق كان بأن نادى شيخ الازهر بتطبيق حدّ الحرابه على ارهابيي داعش؟ وكأن رد الفعل المناسب على العقوبه الوحشيه هو تطبيق عقوبه وحشيه اخرى على الفاعل! وما رأيك في حادثه جلد الشاب السعودي رائف بدوي الشهر الماضي عقوبه له على ابداء اراء مخالفه للموقف الديني الرسمي للدوله؟ وهل المملكه السعوديه منظمه ارهابيه هي الاخرى؟ وما رأيك بعقوبه رجم النساء حتى الموت والتي طُبّقت ولا زالت تطبق كعقوبه رسميه في باكستان واندونيسيا وايران والسودان والصومال وغيرها وغيرها؟ هي ممارسات ممنهجه في الشريعه، تضفي عليها النصوص الدينيه شرعيه فيعلو صوت المنادين بها وما كان ليعلو لولا ذريعه النص الديني. فإما ان تقبل بشرعيتها ضمنيا من حيث القبول بالمرجعيه الدينيه، واما ان ترفضها من حيث المبدأ، بغض النظر عن الجهه المطبقه للعقوبه اوالجهه المتلقيه للعقوبه اوالجرم الموجب للعقوبه. 

ثم ان تصرفات الخليفه البغدادي لا تختلف كثيرا عن تصرفات هارون الرشيد او الامين او المأمون. وحده حاجز الزمن يجعل هؤلاء ابطالا والبغدادي ارهابيا. ونحن اذا تجاهلنا عامل الزمن، وتخيلنا ان البغدادي هذا لا يعيش بيننا اليوم وإنما نقرأ عن انبائه من كتب التاريخ، لوجدنا ان شخصيته ليست خارج السياق، وانما هي شخصيه خليفه اسلامي بامتياز. واذا كانت هوّه سحيقه من الزمن تفصل الخليفه البغداداي عن الخليفه ابي العباس السفاح مثلا، فإن صله الوصل الوحيده بينهما هي: المرجعيه الدينيه، تلك البوابه التي بعثت لنا خليفه عباسيا من دنيا القرن الثامن وحكّمته على رقاب ابنائنا في دنيا اليوم.

اعتقد ان قد آن الاوان لكل من ينادي بالدين كمرجعيه للحكم ان يجيب على سؤال واضح وصريح: أين تقف من العقوبات الجسديه؟ فإما ان تجاهر بمعتقدك ان ما حصل لمعاذ مسأله فيها نظر، واما ان ترفض النظام الديني في العقوبات تماما، خياران لا ثالث لهما. اكراما لمعاذ اصبح من الواجب ان نقول قوله حق جريئه: الدوله ذات المرجعيه الدينيه باب مفتوح  على مصراعيه يملأ حياتنا باسواق النخاسه والحروب الطائفيه والانظمه القمعيه والعبوديه الجنسيه، بالاضافه الى العقوبات الوحشيه البشعه. اما آن الاوان لأن نوصد هذا الباب ونقول لكل هذا الاهوال: كفى!

حكمه العجائزفي الاردن تقول: “الباب الي بتيجيك منه الريح، سدّه واستريح”. اذاً فليذهب رجال الدوله الدينيه الى الجحيم! فالطريق الى الحداثه والاستقرار والازدهار لا يمر بهم، بل على العكس فالطريق لا يبدأ الا بتعريه ضحاله فكرهم وهمجيه طريقتهم، والاعراض عنهم وعن دعوتهم.

Comments